26 - 06 - 2024

رؤية خاصة| آه يا صمتي الطويل

رؤية خاصة| آه يا صمتي الطويل

يسألني الكاتب الصديق لِمَ أطيل الصمت والغياب.

فأقول- صادقة -؛ أنظرُ داخلي فلا أَجِد إلا فراغاً وخواء.

أفكاري لا تستقر في رأسي ولا فوق السطور.

يندهش أو بالأحرى يستاء: أي فراغ؟!!

انظري حولك: اكتبي عن الخائفين، والغاضبين، ومن انكسرت أحلامهم وثوراتهم، عن الوضع الاجتماعي المهترئ والوضع الاقتصادي المتردي.

أحاول أن أفسرني:  ليس غياب الأحداث ما أشكو بل غياب القدرة أو الرغبة أو الطاقة على التفاعل معها وحولها في أجواء كالتي نمر بها.

لكني لا أفسر. وتنمو في داخلي حيرة باتساع مساحة الفراغ الشاسعة؛ "إما أني لا أرى ما يبصرون وإما أنهم لا يرَوْن ما يدركه بصري"، وفِي الحالين، أليست الكتابةُ بضربٍ من الخديعة أو الجنون؟! 

ما بيني وبين الصحفي الصديق كثير وجميل.. نلتقي على معنى أسميه الشوفينية الحميدة! هي نوع من العشق الجارف للبلد والخوف الجامح عليها والرغبة العارمة في أن نراها تنهض من كبوتها الطويلة وتقف كالطود العظيم وتطاول سماء التقدم الذي تستحق.

 لكن لكل منا أسلوبه ورؤيته.. أقرأه فأشعر أنه يمسك سوطاً يلهب به من يظنهم يسيئون أو يفرطون أو يضيعون مقدرات البلد ويسفهون أحلام النَّاس. وفِي بعض الأحيان يصبح السوط سلاحاً نارياً سريع الطلقات.

أما أنا فأحمل لنفسي مصباحاً أفتش به عن كل بارقة أمل، أضيء به حول كل فعل إيجابي مهما صغر، وأرفع المصباح قليلاً لأرى أبعد من واقع الحال.

لذلك رغم الاتفاق أرى اختلافاً، فأبتعد رفعاً للحرج ودرءاً لسوء التأويل.

وللتوضيح، لم يضق صدر الصحفي الصديق ولا ضاقت صفحاته عن رأيي يوماً.. بل لم أَجِد منه إلا كل احتفاءٍ بهذا الرأي وحرص صادق على وجوده واستمراره.

وللتوضيح أيضاً: أنا لا أتعامى عن صعوبات الواقع الموجعة وأزماته الطاحنة ومعاناة قطاعات متزايدة من تبعات الإصلاح الاقتصادي، وأدري تماماً أن العبء الأكبر يقع على عاتق الفئات الأضعف والأكثر إنهاكاً وأن الرهان على تحمل هذه الفئات وطول صبرها لا يجوز أن يستمر.

لكني في الوقت نفسه، أفرق بين معاناة من تكالبت عليه الأمراض وتقيحت جروحه وتُرك لحاله يعالج سكرات الموت وبين معاناة من يخوض سلسلة من الجراحات والمعالجات والتدخلات العاجلة المنقذة للحياة. كلاهما يعاني ولكن أي مصير ينتظر الأول وأي مستقبل يتطلع إليه الأخر؟!

أعلم أن ثمة تضييقاً وأن مساحة التسامح مع المعارضين تقلصت، وأن ثمة وضعاً يصفه البعض بانتزاع الحريات ووأد الرأي المعارض والتنكيل بالخصوم والعودة لحقبة الترويع والإسكات. ولكني انظر فيما حولي واسمع بأذني وأقرأ بعيني فأجد أصواتاً وكتابات ومجادلات تجأر بما هو أشرس من المعارضة؛ منتوجات مترعة بالإهانات والتجريح والسخرية والتحريض والتربص وبث الكراهية؛ متروكة عياناً بياناً- رغم القدرة على إسكاتها- بما يتجافى مع مفهوم وأداء الدولة البوليسية التي يحلو للبعض أن يقول بوجودها وتغولها!

مثل صديقي الصحفي، لدي إحباطات من كثير من مفردات الواقع الآني وطموحات نحو واقعٍ بديل طالما حلمنا به وظننا ساعةً من نهار أنه قريب سهل المنال، ولكني تدهشني حالة التربص والتحامل التي تسري  وترى في كل خطوة للأمام تراجعاً وعند كل محاولة بناء تخريباً ومع كل حلٍ مشكلة ووراء كل إيجابية مخططاً سيّء النية والمقصد.

ويغضبني من يجترئون على بلدهم ويهينون قدرها ويستحلون تعريتها ويقبلون الإساءات والطعنات التي تسدد إليها من الغرباء ويقلبون خيرها شراً ويشككون في مواقفها ويتشفون في أوجاعها ويكشفون عوراتها على سبيل تصفية الحسابات مع خصوم السياسة ومناوئة النظام ومكايدة السلطة وتحدي الحكم!  

رؤية ربما لم يعد يشاركني فيها الكثيرون ممن يتعجلون الثمار ولا يصطبرون على مشاق الطريق وأثقال التجربة أو، ببساطة، من سقطت من ذاكرتهم وقائع السنين العجاف التي كادت تطرحنا وطناً ودولة وأمة وشعباً خارج الجغرافيا والتاريخ.

رؤية لم أعد أرى جدوى من طرحها والدخول في سجالات حولها.

 هل ترى يا صديقي لما أصبحت أعتبر كتابتي ضرباً من الخديعة أو الجنون؟!

------------

بقلم: منى ياسين

 

مقالات اخرى للكاتب

رؤية خاصة| نورا على طريق الغارمات





اعلان